54
يونـان النبي

سفر يونان

أصدقائي المستمعين ..
نحييكم باسم الله ، رب السلام ، الذي يريد أن يفهم الجميع طريق البر الذي أسسه ، وأن يخضعوا لهذا الطريق ، فيكون لهم سلامٌ حقيقيٌّ معه إلى الأبد. يسعدنا أن نكون معكم مرة ثانية اليوم ، لنقدم لكم حلقة أخرى من برنامجكم ‘طريق البر’.

في حلقتنا السابقة، تأملنا معاً قصة نبي الله، إيليا. وكان إيليا نبياً عظيماً بسبب قوة روح الله الذي كان عليه. وصلى إيليا ان لا يكون مطرٌ، وبالفعل لم يكن هناك مطرٌ في إسرائيل لمدة ثلاث سنين ونصف. وأيضاً، واجه إيليا أنبياء البعل الكاذبين، كاشفاً ديانتهم الكاذبة أمام كل شعب إسرائيل. وهكذا، استخدم الله النبي إيليا ليرد قلوب الكثيرين من شعب إسرائيل الى الرب إلههم.

ونريد اليوم، أن نتأمل في قصة نبيٍّ آخر جاء بعد إيليا. وسنرى كيف اختار الله رجلاً إسرائيلياً يدعى ‘‘يونان’’ (أو ‘‘يونس’’)، وأمره أن يذهب ليبشر شعباً غريباً كان من اعداء إسرائيل.

دعونا نقرا في سفر يونان، والأصحاح الأول. يقول الكتاب:
‘‘وصار قول الرب إلى يونان بن أمِتَّاي قائلاً: قم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة، ونادِ عليها، لأنه قد صعد شرهم أمامي.’’ (يون 1:1-2)

هل سمعت ما أمر به الرب يونان؟ لقد أمر الله يونان أن يذهب ويحذر شعب مدينة نينوى ليتوبوا عن خطاياهم. وذلك بالرغم من أن نينوى كانت عاصمة آشور، وكان شعب آشور شعباً شريراً، يريد أن يفني شعب إسرائيل!

ولكن، لماذا أراد الرب الإله أن يرسل يونان إلى هذا الشعب الغريب الذي كان يحتقر شعب إسرائيل ويكرهه؟ فهل كان الله يهتم بأعداء إسرائيل أيضاً؟ نعم، كان يهتم الله بهم! فلقد كان الله على وشك أن يدين شعب نينوى لأن خطاياهم كانت قد وصلت إلى السماء. إلا أن الله لا يجد أي مسرة في إهلاك الخطاة. فالله يريد أن يتوب الجميع عن خطاياهم، ويصدقوا كلمة الله، ويخلصوا. ولهذا، أمر الرب يونان أن يذهب إلى أهل نينوى، ويحذرهم كيما يتوبوا عن خطاياهم، ويرجعون لله، ويخلصوا.

إلا أن يونان لم يُرِدْ أن يذهب ويحذر أعداءه! فلم يرد يونان أن يكون نبياً لمدينة نينوى! لقد أراد الله أن يتوب أهل نينوى، حتى ما يرحمهم، ولكن يونان أراد أن الله يعاقبهم. وهكذا، رفض يونان مهمته، وحاول أن يهرب من الرب الإله. ولكن، أين كان يمكن ليونان أن يهرب من محضر الله؟

دعونا نستمر في قراءة القصة، لنرى ما الذي فعله يونان. يقول الكتاب:
‘‘فقام يونان ليهرب إلى ترشيش من وجه الرب، فنزل إلى يافا، ووجد سفينةً ذاهبةً إلى ترشيش، فدفع أجرتها، ونزل فيها ليذهب معهم إلى ترشيش من وجه الرب. فأرسل الرب ريحاً شديدة إلى البحر، فحدث نوءٌ عظيمٌ في البحر، حتى كادت السفينة تنكسر. فخاف الملاحون، وصرخوا كل واحدٍ إلى إلهه، وطرحوا الأمتعة التي في السفينة، ليخففوا عنهم. وأما يونان، فكان قد نزل إلى جوف السفينة، واضطجع ونام نوماً ثقيلاً. فجاء إليه رئيس النوتِيَّة، وقال له: ما لك نائماً؟ قم اصرخ إلى إلهك، عسى أن يفتكر الإله فينا، فلا نهلك. وقال بعضهم لبعض: هلم نلقي قرعاً، لنعرف بسبب من هذه البَلِيَّة. فألقوا قرعاً، فوقعت القرعة على يونان.
‘‘فقالوا له: أخبرنا بسبب من هذه المصيبة علينا. ما هو عملك؟ ومن أين أتيت؟ ما هي أرضك؟ ومن أي شعب أنت؟ فقال لهم: أنا عبراني، وأنا خائف من الرب إله السماء، الذي صنع البحر والبر. فخاف الرجال خوفاً عظيماً، وقالوا له: لماذا فعلت هذا؟ فإن الرجال عرفوا أنه هاربٌ من وجه الرب، لأنه أخبرهم. فقالوا له: ماذا نصنع بك ليسكن البحر عنا؛ لأن البحر كان يزداد اضطراباً. فقال لهم: خذوني واطرحوني في البحر، فيسكن البحر عنكم، لأنني عالمٌ أنه بسببي هذا النوء العظيم عليكم. ولكن الرجال جَذَفُوا، ليرجعوا السفينة إلى البَرْ، فلم يستطيعوا، لأن البحر كان يزداد اضطراباً عليهم.
‘‘فصرخوا إلى الرب، وقالوا: آه يا رب، لا نهلك من أجل نفس هذا الرجل، ولا تجعل علينا دماً بريئاً، لأنك يا رب فعلت كما شئت. ثم أخذوا يونان، وطرحوه في البحر، فوقف البحر عن هيجانه. فخاف الرجال من الرب خوفاً عظيماً، وذبحوا ذبيحة للرب، ونذروا نذوراً. وأما الرب، فأعد حوتاً عظيماً، ليبتلع يونان. فكان يونان في جوف الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ.’’ (يون 3:1-17)

دعونا نتوقف هنا. وحتى هذه النقطة، يمكننا أن نرى كيف تتبع الله يونان، نبيه الهارب! فلقد أستطاع يونان أن يهرب، ولكن لم يستطع الهروب من يد الله. ولكن لماذا تتبع الله يونان؟ لقد تتبع الله يونان، لأنه أحب يونان وأراده أن يفعل إرادته. ولهذا، أرسل الله حوتاً كبيراً ليبتلعة، لا ليميته.

مسكين يونان! فهو الآن، يرى نفسه في جوف حوت كبير! فما الذي كان يمكن ليونان أن يفعله ليخلِّص نفسه؟ لا شيء! لا شيء سوى أن يصرخ للرب الإله. فالله وحده، هو الذي كان يمكنه أن يخلِّصه. وفي الأصحاح الثاني، يخبرنا الكتاب كيف صلى يونان للرب من جوف الحوت، واعترف بخطيته، إذ رفض أن يطيع الله. ولمدة ثلاثة أيام، حمى الله يونان داخل هذا المخلوق البحرى الكبير. ويا له من درسٍ هامٍّ تعلَّمه يونان! ففي اليوم الثالث، صرخ يونان قائلاً: ‘‘للرب الخلاص.’’ (يون 9:2) وعندما قال يونان: ‘‘للرب الخلاص.’’، يقول الكتاب: ‘‘.. أمر الرب الحوت، فقذف يونان إلى البَر.’’ (يون 10:2)

وفي الاصحاح الثالث، يقول الكتاب:
‘‘فصار قول الرب إلى يونان ثانية قائلاً: قم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة، ونادِ لها المناداة التي أنا مُكَلِّمُك بها. فقام يونان، وذهب إلى نينوى بحسب قول الرب. أما نينوى، فكانت مدينةً عظيمةً لله، مسيرةَ ثلاثة أيام. فابتدأ يونان يدخل المدينة مسيرةَ يومٍ واحدٍ، ونادى وقال: بعد أربعين يوماً، تنقلب نينوى!
‘‘فآمن أهل نينوى بالله، ونادوا بصومٍ، ولبسوا مسوحاً من كبيرهم إلى صغيرهم. وبلغ الأمر ملك نينوى، فقام من كرسيه، وخلع رداءه عنه، وتغطَّى بمسحٍ، وجلس على الرماد. ونودِيَ وقيل في نينوى عن أمر الملك وعظمائه، قائلاً: لا تذُق الناس، ولا البهائم، ولا البقر، ولا الغنم شيئاً. لا ترعَ، ولا تشرب ماءً. وليتغطَّ بمسوحٍ الناس والبهائم، ويصرخوا إلى الله بشدةٍ، ويرجعوا كل واحدٍ عن طريقة الرديئة وعن الظلم الذي في أيديهم. لعل الله يعود ويندم ويرجع عن حمو غضبه، فلا نهلك. فلما رأى الله أعمالهم، أنهم رجعوا عن طريقهم الرديئة، ندم الله على الشر الذي تكلم أن يصنعه بهم، فلم يصنعه.’’ (يون 1:3-10)

وهكذا، نرى أن الله تحنن ورحم أهل نينوى، لأنهم آمنوا بالكلمة التي أرسلها لهم. فلقد تاب أهل نينوى عن خطاياهم بقلب منكسر ومنسحق، ورجعوا إلى الرب. إلا أن يونان لم يكن سعيداً، وذلك لأن الله أظهر رحمته على أهل نينوى. فلنسمع لما يقوله الكتاب في الأصحاح الرابع والأخير من سفر يونان.
يقول الكتاب:
‘‘فغمَّ ذلك يونان غمَّاً شديداً، فاغتاظ وصلَّى إلى الرب. وقال: آه يا رب، أليس هذا كلامي، إذ كنت بعد في أرضي. لذلك بادرت إلى الهرب إلى ترشيش، لأني علمت أنك إلهٌ رؤوفٌ ورحيمٌ، بطيءُ الغضب، وكثيرُ الرحمة، ونادمٌ على الشر. فالآن يا رب، خذ نفسي منِّي، لأن موتي خيرٌ من حياتي. فقال الرب: هل اغتظتَ بالصواب؟ (أي هل كان صواباً منك أن تغتاظ؟) وخرج يونان من المدينة، وجلس شرقي المدينة، وصنع لنفسه هناك مظلة، وجلس تحتها في الظل، حتى يرى ماذا يحدث في المدينة. فأعدَّ الرب الإله يقطينةً، فارتفعت فوق يونان لتكون ظلاً على رأسه ليخلِّصه من غمِّه. ففرح يونان من أجل اليقطينة فرحاً عظيماً.
‘‘ثم أعد الله دودةً عند طلوع الفجر في الغد، فضربت اليقطينة، فيبست. فحدث عند طلوع الشمس، أن الله أعدَّ ريحاً شرقيةً حارةً، فضربت الشمس على رأس يونان، فذبل، فطلب لنفسه الموت، وقال: موتي خيرٌ من حياتي. فقال الله ليونان: هل اغتظتَ بالصواب من أجل اليقطينة؟ فقال: اغتظتُ بالصواب حتى الموت! (أي إني سأموت غيظاً!) فقال الرب: أنت شفقت على اليقطينة التي لم تتعب فيها، ولا ربيتها، التي بنتَ ليلةٍ كانت، وبنتَ ليلةٍ هَلَكَت. أفلا أشفَق أنا على نينوى المدينة العظيمة، التي يوجد فيها أكثر من اثني عشرة ربوةً من الناس الذين لا يعرفون يمينهم من شمالهم، وبهائمُ كثيرةٌ.’’ (يون 1:4-11) .. وهكذا، ينتهي سفر يونان.

إعزائي المستمعين ..
هناك الكثير الذي يمكننا أن نتعلمه عن طبيعة الإنسان وطبيعة الله من خلال قصة النبي يونان. ومن الإمور التي يمكننا أن نراها أن الله لا يأخذ بالوجوه، أي أن الله ليس عنده محاباة. فلقد أظهر يونان محاباةً وتحيزاً، ولكن الله لم يظهر ذلك. فكان قلب الله مختلفاً تماماً عن قلب يونان.

كان قلب يونان مليء بالمحاباة والتحيز؛ أما قلب الله فقد كان مليئاً بالتحنن والشفقة على جميع الناس. لقد أحب يونان شعبه، وكره أعدائه. أما الله فقد أحب شعب إسرائيل وشعب نينوى. وأراد يونان أن يهلك أهل نينوى؛ لأنهم كانوا أعداء شعب إسرائيل. أما الله، فأراد أن يتوبوا عن خطاياهم، ويقبلوا كلمته، ويخلصوا. فالله لا يظهر أي محاباة أو تحيز. فكيفما كنت أنت، فالله يحبك. فهو لا يحب خطيتك وتمردك، ولكنه يحبك أنت. إن الله يحب كل إنسان في كل أمة، ويريد أن يعترف كل إنسان بخطيته أمامه، ويسمع الحق، ويفهمه، ويؤمن به، فيخلص.

يعتقد بعض الناس أن الله لا يهتم بكل شخص على الأرض، وأنه قد اختار بصورة تعسفية، أن يحترق البعض في النار، وأن يتمتع البعض الآخر بالفردوس. فبينما أنه من الحقيقي أن معظم الناس سيموتون في خطاياهم، ويواجهون غضب الله البار، فإنه من الخطأ أن نعتقد أن الله لا يهتم بهؤلاء الذين يهلكون في جهلهم. فيخبرنا الكتاب أن الله ‘‘يريد أن جميع الناس يخلصون، وإلى معرفة الحق يُقبِلون.’’ (1تي 4:2) ‘‘فهو لا يشاء أن يَهلِك أناسٌ، بل أن يُقبِل الجميع إلى التوبة.’’ (2بط 9:3) إلا أن هؤلاء الذين يرفضون التوبة، فسوف يدينهم الله لأنهم ‘‘.. لم يقبلوا محبة الحق حتى يخلصوا .. إذ يُدَان جميع الذين لم يصدقوا الحق، بل سُرُّوا بالإثم.’’ (2تس 10:2-12) هذا هو ما تعلنه كلمة الله. إن الله صالح ورحيم، وهو قد قدَّم طريقة للخلاص لكل إنسان. إلا أن الله أيضاً قدوس وبار وعادل، وسوف يدين كل إنسان لا يقبل طريقه البار للخلاص.

أصدقائي المستمعين ..
لا يخدعنَّكم أحد. فالله ليس عنده أي محاباة، ولا يُسر بهلاك الخطاة. وهو يريد كل إنسان على الأرض أن يعرف الحق، ويؤمن به، ويخلص. ولهذا، أوحى الله إلى الأنبياء في القديم أن يكتبوا كلمته، كيما نعرف نحن طريق الخلاص الذي رسمه الله، ونقبله، فنخلص. فكل من يقبل طريق الله للخلاص، سيذهب إلى السماء. وكل من يرفضه أو يهمله، سيهلك! إن الله لا يأخذ بالوجوه. فكما هو مكتوب: إن الله ‘‘يريد أن يخلص الجميع .. ولكن إن لم تتوبوا، فجميعكم كذلك تهلكون!’’ (1تي 4:2 ؛ لو 3:13)

وفي حلقتنا القادمة بإذن الله، سنتعلم عن نبيٍّ عظيم، تنبأ بالكثير والكثير عن المخلِّص الفادي الذي سيأتي إلى العالم، ليخلِّص الخطاة. ذلك النبي العظيم هو ‘‘إشعياء’’، نبي الله الذي عاش قبل مجيء المسيا بسبع مئة سنة.

فليبارككم الله، وأنتم تتذكرون هذين الدرسين، اللذين أراد الله أن يعلمهما لنبيه غير الأمين يونان:
الدرس الأول: ‘‘للرب الخلاص.’’ (يون 10:2)
والدرس الثاني: ‘‘أن الله لا يقبل الوجوه’’ .. أي ليس عنده محاباة! (أع 34:10)

ــــــــــــــ
 

 الدرس الخامس والخمسون | فهرس دراسات طريق البِرّ | المكتبة | الصفحة الرئيسية